والمعنى الثاني: لا تجعلوها مثل المقبرة التي لا يصلى فيها، وكلا المعنيين يدلان على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطهير جناب التوحيد من أي خدش فيه، فأما على المعنى الأول -وهو: النهي عن دفن الموتى في البيوت- فإن دفن الموتى في البيوت نوع من أنواع الغلو، وهو يفضي إلى التعظيم، ولهذا نلحظ في تاريخ المسلمين أن أكثر من أن يصنع هذا هم السلاطين والوجهاء، وأصحاب الأماكن العالية، فقد يبني أحدهم قصراً ويجعله مقبرة لنفسه، وهذا يضفي شيئاً من التعظيم على القبر الذي يدفن فيه.
ومثال ذلك مسألة قيادة المرأة للسيارة، يقول بعض هؤلاء: لو جلست المرأة مكان السائق الرجل وأمسكت بـ الدركسون بتلك الطريقة وساقت فهل عليها إثم عند الله؟! ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة — رحمه الله تعالى — نَظرةٌ عميقة لمفهوم العبادة، حلَّلَ فيها المعاني التي يَشتمل عليها هذا المفهوم، مُبْرِزًا إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة — وهو غاية الطاعة والخضوع — عنصرًا جديدًا له أهميَّة كبرى في الإسلام، ولا تتحقَّق العبادة إلاَّ به، وهو عنصر الحبِّ، ومِن ثمَّ فالعبادة تتضمَّن غاية الذُّلِّ لله، بغاية المحبَّة له، فمَن خضَع لإنسانٍ مع بُغضه له، لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولَم يَخضع له، لَم يكن عابدًا له، كما قد يحبُّ ولدَه وصديقه؛ ولهذا لا يَكفي أحدُهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ شيءٍ، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كلِّ شيءٍ، بل لا يستحقُّ المحبَّةَ والذُّل التامَّ إلاَّ اللهُ تعالى، وكلُّ ما أُحِبَّ لغير الله، فمحبَّته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله، كان تعظيمه باطلاً.